فصل: تفسير الآيات رقم (11 - 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير سورة الأنفال

وهي مدنية آياتها سبعون وست آيات كلماتها ألف كلمة، وستمائة كلمة، وإحدى وثلاثون كلمة، حروفها خمسة آلاف ومائتان، وأربعة وتسعون حرفا، والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏

قال البخاري‏:‏ قال ابن عباس الأنفال‏:‏ الغنائم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، أخبرنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ سورة الأنفال‏؟‏ قال نزلت في بدر‏.‏

أما ما عَلَّقه عن ابن عباس، فكذلك رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏"‏الأنفال‏"‏‏:‏ الغنائم، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء‏.‏ وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وقتادة، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد أنها الغنائم‏.‏

وقال الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الأنفال‏:‏ الغنائم، قال فيها لَبِيدُ‏:‏إِنَّ تَقْوَى رَبّنَا خيرُ نَفَلوَبِإِذْنِ اللهِ رَيثي وَعَجَلْ‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد قال‏:‏ سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن ‏"‏الأنفال‏"‏، فقال ابن عباس، رضي الله عنهما‏:‏ الفرس من النَّفل، والسلب من النفل‏.‏ ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضا‏.‏ ثم قال الرجل‏:‏ الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي‏؟‏ قال القاسم‏:‏ فلم يزل يسأله حتى كاد يُحرجه، فقال ابن عباس‏:‏ أتدرون ما مثل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا سئل عن شيء قال‏:‏ لا آمرك ولا أنهاك‏.‏ ثم قال ابن عباس‏:‏ والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا آمرا محلا محرما‏.‏ قال القاسم‏:‏ فَسُلِّطَ على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس‏:‏ كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه‏.‏ فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك، ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس‏:‏ أتدرون ما مثل هذا‏؟‏ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب، حتى سالت الدماء على عقبيه -أو على‏:‏ رجليه فقال الرجل‏:‏ أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك‏.‏ وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس‏:‏ أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه، بعد قسم أصل المغنم، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ‏}‏ وقال ابن مسعود ومسروق‏:‏ لا نفل يوم الزحف، إنما النفل قبل التقاء الصفوف‏.‏ رواه ابن أبي حاتم عنهما‏.‏

وقال ابن المبارك وغير واحد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ‏}‏ قال‏:‏ يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء‏.‏

وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هي أنفال السرايا، حدثني الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال‏:‏ بلغني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ‏}‏ قال‏:‏ السرايا‏.‏ ويعني هذا‏:‏ ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش، وقد صرح بذلك الشعبي، واختار ابن جرير أنها الزيادات على القسم، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية، وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبد الله الثقفي، عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ لما كان يوم بدر، وقتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى ‏"‏ذا الكتيفة‏"‏، فأتيت به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏اذهب فاطرحه في القبض‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي‏.‏ قال‏:‏ فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اذهب فخذ سيفك‏"‏وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا أبو بكر، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك قال‏:‏ قال‏:‏ يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه‏"‏ قال‏:‏ فوضعته، ثم رجعت، قلت‏:‏ عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي‏!‏ قال‏:‏ رجل يدعوني من ورائي، قال‏:‏ قلت‏:‏ قد أنزل الله في شيئا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كنت سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وهب لي، فهو لك‏"‏ قال‏:‏ وأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي من طرق، عن أبي ‏[‏بكر‏]‏ بن عياش، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي‏:‏ أخبرنا شعبة، أخبرنا سماك بن حرب، قال‏:‏ سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد قال‏:‏ نزلت في أربع آيات‏:‏ أصبت سيفا يوم بدر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ نَفِّلْنِيه‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ضعه من حيث أخذته‏"‏ مرتين، ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ضعه من حيث أخذته‏"‏، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏يسألونك عن الأنفال‏:‏‏}‏‏.‏ وتمام الحديث في نزول‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 8‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ وآية الوصية‏.‏ وقد رواه مسلم في صحيحه، من حديث شعبة، به‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة قال‏:‏ سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول‏:‏ أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر، وكان السيف يدعى بالمرزبان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل، أقبلت به فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فسأله رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ فأعطاه إياه‏.‏ ورواه ابن جرير من وجه آخر‏.‏

‏[‏سبب آخر في نزول الآية‏]‏‏:‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة قال‏:‏ سألت عبادة عن الأنفال، فقال‏:‏ فينا -أصحاب بدر- نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء -يقول‏:‏ عن سواء‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا معاوية بن عمرو، أخبرنا أبو إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله ‏[‏تعالى‏]‏ العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه‏.‏ وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم‏:‏ نحن حويناها، فليس لأحد فيها نصيب‏.‏ وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏:‏ لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنها العدو وهزمناهم‏.‏ وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لستم بأحق منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ‏}‏ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين -وكان رسول الله إذا غار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل وكل الناس راجعا، نفل الثلث، وكان يكره الأنفال ويقول‏:‏ ‏"‏ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه، وقال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث وقال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه‏.‏ وروى أبو داود والنسائي، وابن جرير، وابن مردويه -واللفظ له -وابن حبان، والحاكم من طرق، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ‏:‏ لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءًا لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا‏.‏ فتنازعوا فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوااللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ وقال الثوري، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا‏"‏‏.‏ فجاء أبو اليَسَر بأسيرين، فقال‏:‏ يا رسول الله، وعدتنا، فقام سعد بن عبادة فقال‏:‏ يا رسول الله، إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر، ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك، نخاف أن يأتوك من ورائك، فتشاجروا، ونزل القرآن‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ قال‏:‏ ونزل القرآن‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ ‏[‏وَلِلرَّسُولِ‏]‏‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب ‏"‏الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها‏"‏‏:‏ أما الأنفال‏:‏ فهي المغانم، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب، فكانت الأنفال الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ فقسمها يوم بدر على ما أراده الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى‏.‏ قلت‏:‏ هكذا روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، سواء‏.‏ وبه قال مجاهد، وعكرمة والسُّدِّيّ‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ليست منسوخة، بل هي محكمة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وفي ذلك آثار، والأنفال أصلها جمع الغنائم، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب، وجرت به السنة‏.‏ ومعنى الأنفال في كلام العرب‏:‏ كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شيء خصه الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله هذه الأمة فهذا أصل النفل‏.‏

قلت‏:‏ شاهد هذا في الصحيحين عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي‏"‏ فذكر الحديث، إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي‏"‏، وذكر تمام الحديث‏.‏

ثم قال أبو عبيد‏:‏ ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو‏.‏ وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى‏:‏فإحداهن‏:‏ في النفل لا خمس فيه، وذلك السلب‏.‏

والثانية‏:‏ في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس، وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب، فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس‏.‏

والثالثة‏:‏ في النفل من الخمس نفسه، وهو أن تحاز الغنيمة كلها، ثم تخمس، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى‏.‏

والرابعة‏:‏ في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء، وهو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسَّوَّاق لها، وفي كل ذلك اختلاف‏.‏

قال الربيع‏:‏ قال الشافعي‏:‏ الأنفال‏:‏ ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم، وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن له خمس الخمس من كل غنيمة، فينبغي للإمام أن يجتهد، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم، وقل من بإزائه من المسلمين، نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن ذلك لم ينفل‏.‏

والوجه الثالث من النفل‏:‏ إذا بعث الإمام سرية أو جيشًا، فقال لهم قبل اللقاء‏:‏ من غنم شيئا فله بعد الخمس، فذلك لهم على ما شرط الإمام؛ لأنهم على ذلك غزوا، وبه رضوا‏.‏ انتهى كلامه

وفيما تقدم من كلامه وهو قوله‏:‏ ‏"‏إن غنائم بدر لم تخمس‏"‏، نظر‏.‏ ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر، وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانًا شافيا ولله الحمد ‏[‏والمنة‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ أي‏:‏ في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه قسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ‏[‏الله‏]‏ ويصلحوا ذات بينهم‏.‏ وكذا قال مجاهد‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تستبوا‏.‏ ونذكر هاهنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، رحمه الله، في مسنده، فإنه قال‏:‏ حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس، عن أنس، رضي الله عنه، قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر‏:‏ ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة، تبارك وتعالى، فقال أحدهما‏:‏ يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ أعط أخاك مظلمتك‏.‏ قال‏:‏ يا رب، لم يبق من حسناتي شيء‏.‏ قال‏:‏ رب، فليحمل عني من أوزاري‏"‏ قال‏:‏ وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال‏:‏ ‏"‏إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب‏:‏ ارفع بصرك فانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال‏:‏ يا رب، أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا‏؟‏ لأي صديق هذا‏؟‏ لأي شهيد هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا لمن أعطى الثمن‏.‏ قال‏:‏ يا رب، ومن يملك ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أنت تملكه‏.‏ قال‏:‏ ماذا يا رب‏؟‏ قال‏:‏ تعفو عن أخيك‏.‏ قال‏:‏ يا رب، فإني قد عفوت عنه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ خذ بيد أخيك فأدخله الجنة‏"‏‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 4‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فأدوا فرائضه‏.‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ يقول‏:‏ تصديقا ‏{‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يرجون غيره‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ فرقت، أي‏:‏ فزعت وخافت‏.‏ وكذا قال السدي وغير واحد‏.‏

وهذه صفة المؤمن حق المؤمن، الذي إذا ذكر الله وجل قلبه، أي‏:‏ خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40، 41‏]‏ولهذا قال سفيان الثوري‏:‏ سمعت السدي يقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ قال‏:‏ هو الرجل يريد أن يظلم -أو قال‏:‏ يهم بمعصية- فيقال له‏:‏ اتق الله فَيجل قلبه‏.‏

وقال الثوري أيضًا‏:‏ عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ قالت‏:‏ الوجل في القلب إحراق السعفة، أما تجد له قشعريرة‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قالت لي‏:‏ إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ‏[‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏]‏‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏ وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، كما بينا ذلك مستقصى في أول الشرح البخاري، ولله الحمد والمنة‏.‏

‏{‏وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك، وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبير‏:‏ التوكل على الله جماع الإيمان‏.‏

وقوله ‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ ينبه بذلك على أعمالهم، بعد ما ذكر اعتقادهم، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها، وهو إقامة الصلاة، وهو حق الله تعالى‏.‏

وقال قتادة‏:‏ إقامة الصلاة‏:‏ المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها، وسجودها‏.‏

وقال مقاتل بن حَيَّان‏:‏ إقامتها‏:‏ المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا إقامتها‏.‏

والإنفاق مما رزقهم الله يشمل خراج الزكاة، وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه‏.‏

قال قتادة في قوله ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ فأنفقوا مما أعطاكم الله، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، أوشكت أن تفارقها‏.‏

وقوله ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن خالد بن يزيد السَّكْسَكِيّ، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري؛ أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ ‏"‏كيف أصبحت يا حارث‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ أصبحت مؤمنا حقا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏انظر ماذا تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ عَزَفَت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتَضاغَوْن فيها، فقال‏:‏ ‏"‏يا حارث، عرفت فالزم‏"‏ ثلاثا‏.‏ وقال عمرو بن مُرَّة في قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ إنما أُنزلَ‏}‏ القرآن بلسان العرب، كقولك‏:‏ فلان سيد حقا، وفي القوم سادة، وفلان تاجر حقا، وفي القوم تجار، وفلان شاعر حقا، وفي القوم شعراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ منازل ومقامات ودرجات في الجنات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 163‏]‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ أي‏:‏ يغفر لهم السيئات، ويشكر لهم الحسنات‏.‏

وقال الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد‏.‏

ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء‏"‏، قالوا يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء، لا ينالها غيرهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين‏"‏

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد ‏[‏و‏]‏ أهل السنن من حديث عَطية، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَمَا‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 8‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ‏}‏

قال الإمام أبو جعفر الطبري‏:‏ اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه ‏"‏الكاف‏"‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله‏.‏ ثم روى عن عكرمة نحو هذا‏.‏ ومعنى هذا أن الله تعالى يقول‏:‏ كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها على العدل والتسوية، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة -وهم النفير النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم -فكان عاقبة، كراهتكم للقتال -بأن قدَّره لكم، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد -رَشَدَا وهدى، ونصرا وفتحا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ معنى ذلك‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ‏}‏ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ‏}‏ قال‏:‏ كذلك يجادلونك في الحق‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ‏}‏ لطلب المشركين ‏{‏يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ‏}‏

وقال بعضهم‏:‏ يسألونك عن الأنفال مجادلة، كما جادلوك يوم بدر فقالوا‏:‏ أخرجتنا للعِير، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له‏.‏

قلت‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع، ما بين التسعمائة إلى الألف، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا، وجاء النفير فوردوا ماء بدر، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم، والتفرقة بين الحق والباطل، كما سيأتي بيانه‏.‏

والغرض‏:‏ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين‏:‏ إما العير وإما النَّفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير؛ لأنه كسب بلا قتال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ‏}‏ قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره‏:‏ حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة‏:‏ إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا‏؟‏ ‏"‏ فقلنا‏:‏ نعم، فخرج وخرجنا، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا‏:‏ ‏"‏ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم‏؟‏ ‏"‏ فقلنا‏:‏ لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم قال‏:‏ ‏"‏ما ترون في قتال القوم‏؟‏ ‏"‏ فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو‏:‏ إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ قال‏:‏ فتمنينا -معشر الأنصار- أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، قال‏:‏ فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ‏}‏ وذكر تمام الحديث ورواه ابن أبي حاتم، من حديث ابن لهيعة، بنحوه‏.‏

ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالرَّوْحاء، خطب الناس فقال‏:‏ ‏"‏كيف تَرَون‏؟‏ ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ ثم خطب الناس فقال‏:‏ ‏"‏كيف ترون‏؟‏ ‏"‏ فقال عمر مثل قول أبي بكر‏.‏ ثم خطب الناس فقال‏:‏ ‏"‏كيف ترون‏؟‏ ‏"‏ فقال سعد بن معاذ‏:‏ يا رسول الله إيانا تريد‏؟‏ فو الذي أكرمك ‏[‏بالحق‏]‏ وأنزل عليك الكتاب، ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت ‏[‏بنا‏]‏ حتى تأتي ‏"‏بَرْك الغماد‏"‏ من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى ‏{‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك، فامض له، فَصِلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ‏}‏ الآيات‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو، وقال له سعد بن عبادة ما قالوذلك يوم بدر، أمر الناس فعبئوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ يجادلونك في الحق‏:‏ في القتال‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ ‏[‏بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ ‏{‏يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ‏}‏ أي‏:‏ بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ عنى بذلك المشركين‏.‏

حدثني يونس، أنبأنا ابن وَهْب قال‏:‏ قال ابن زيد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق ‏{‏كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ‏}‏ حين يدعون إلى الإسلام ‏{‏وَهُمْ يَنْظُرُونَ‏}‏ قال‏:‏ وليس هذا من صفة الآخرين، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر‏.‏

ثم قال ابن جرير‏:‏ ولا معنى لما قاله؛ لأن الذي قبل قوله‏:‏ ‏{‏يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ‏}‏ خبر عن أهل الإيمان، والذي يتلوه خبر عنهم، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين‏.‏

وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام، والله أعلم‏.‏‏.‏

وقال الإمام أحمد، رحمه الله‏:‏ حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل، عن سِمَال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر‏:‏ عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب -قال عبد الرزاق‏:‏ وهو أسير في وثاقه -ثم اتفقا‏:‏ إنه لا يصلح لك، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك‏.‏ إسناد جيد، ولم يخرجه‏.‏ ومعنى قوله تعالى ‏{‏وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال، تكون لهم وهي العير ‏{‏وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالبا على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ‏[‏وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏}‏

وقال محمد بن إسحاق، رحمه الله‏:‏ حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس -كل قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر -قالوا‏:‏ لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم، وقال‏:‏ ‏"‏هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها‏"‏ فانتدب الناسُ، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان‏:‏ أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فَحَذِرَ عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ‏"‏ذَفرَان‏"‏، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر، رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام عمر، رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال‏:‏ يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى ‏"‏بَرْك الغِماد‏"‏ -يعني مدينة الحبشة -لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أشيروا علي أيها الناس‏"‏ -وإنما يريد الأنصار -وذلك أنهم كانوا عَدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا‏:‏ يا رسول الله، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة، من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ‏:‏ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أجل‏"‏ قال‏:‏ فقال‏:‏ فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت‏.‏ فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله ‏[‏أن‏]‏ يريك منا ما تَقَرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله‏.‏ فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه ذلك، ثم قال‏:‏ ‏"‏سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم‏"‏

وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 10‏]‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو نوح قُرَاد، حدثنا عكرمة بن عَمَّار، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل، حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال‏:‏ لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونَيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال‏:‏ ‏"‏اللهم أين ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا‏"‏، قال‏:‏ فما زال يستغيث ربه ‏[‏عز وجل‏]‏ ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال‏:‏ يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ فلما كان يومئذ والتقوا، فهزم الله المشركين، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما ترى يا ابن الخطاب‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان -قريب لعمر -فأضرب عنقه، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه، وتُمكن حمزة من فلان -أخيه -فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد -قال عمر- غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، ‏[‏أخبرني‏]‏ ما يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما‏!‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة -لشجرة قريبة‏"‏، وأنزل الله ‏[‏عز وجل‏]‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67، 68‏]‏ من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم، فلما كان يوم أحد من العام المقبل، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت ربَاعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله ‏[‏عز وجل‏]‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏ بأخذكم الفداء‏.‏ ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن جرير، وابن مَرْدُويه، من طرق عن عكرمة بن عمار، به‏.‏ وصححه علي بن المديني والترمذي، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني‏.‏ وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ أن هذه الآية الكريمة قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ‏[‏فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏]‏‏}‏ أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد بن يُثيَع، والسُّدِّي، وابن جريج‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي حُصَين، عن أبي صالح قال‏:‏ لما كان يوم بدر، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو، فأتاه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال‏:‏ يا رسول الله، بعض نِشْدَتِك، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك‏.‏ وقال البخاري في ‏"‏كتاب المغازي‏"‏، باب قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا إسرائيل، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول‏:‏ شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال‏:‏ لا نقول كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله

وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏:‏ ‏"‏اللهم أنشدك عَهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد‏"‏، فأخذ أبو بكر بيده، فقال‏:‏ حسبك‏!‏ فخرج وهو يقول‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ يُرْدفُ بعضُهم بعضًا، كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ متتابعين‏.‏

ويحتمل أن ‏[‏يكون‏]‏ المراد ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ لكم، أي‏:‏ نجدة لكم، كما قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُرْدِفيِنَ‏}‏ يقول‏:‏ المدَدَ، كما تقول‏:‏ ائت الرجل فزده كذا وكذا‏.‏

وهكذا قال مجاهد، وابن كثير القارئ، وابن زيد‏:‏ ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ ممدين‏.‏

وقال أبو كُدَيْنة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ قال‏:‏ وراء كل ملك ملك‏.‏

وفي رواية بهذا الإسناد‏:‏ ‏{‏مُرْدِفِينَ‏}‏ قال‏:‏ بعضهم على أثر بعض‏.‏ وكذا قال أبو ظِبْيَان، والضحاك، وقتادة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران، عن الزَّمْعِي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جُبَيْر، عن علي رضي الله عنه، قال‏:‏ نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في الميسرة‏.‏

وهذا يقتضي -لو صح إسناده -أن الألف مردفة بمثلها؛ ولهذا قرأ بعضهم‏:‏ ‏"‏مُرْدَفِين‏"‏ بفتح الدال، فالله أعلم‏.‏

والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة‏.‏

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير، ومسلم، من حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي، عن ابن عباس، عن عمر، الحديث المتقدم‏.‏ ثم قال أبو زُمَيل حدثني ابن عباس قال‏:‏ بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوتَ الفارس يقول‏:‏ ‏"‏أقدم حَيْزُوم إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيا قال‏:‏ فنظر إليه، فإذا هو قد خُطِم أنفه، وشُقَّ وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏صدقتَ، ذلك من مَدَد السماء الثالثة‏"‏، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين‏.‏

وقال البخاري‏:‏ ‏"‏باب شهود الملائكة بدرا ‏"‏‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى بن سعيد، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر -قال‏:‏ جاء جبريلإلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما تعدون أهل بدر فيكم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏من أفضل المسلمين‏"‏ -أو كلمة نحوها -قال‏:‏ ‏"‏وكذلك من شهد بدرا من الملائكة‏.‏

انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج، وهو خطأ والصواب رواية البخاري، والله ‏[‏تعالى‏]‏ أعلم‏.‏

وفي الصحيحين‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏:‏ ‏"‏إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ‏"‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى ‏[‏وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ‏]‏‏}‏ الآية أي‏:‏ وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بُشرى، ‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ‏}‏؛ وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4-6‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140، 141‏]‏فهذه حكم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمة المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادًا الأولى بالدَّبُور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل وقوم شعيب بيوم الظلة، فلما بعث الله تعالى موسى ‏[‏عليه السلام‏]‏ وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليمّ، ثم أنزل على موسى التوراة، شرع فيها قتال الكفار، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ ‏[‏لِلنَّاسِ‏]‏‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 43‏]‏ وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين، وأشفى لصدور المؤمنين، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏[‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏]‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14، 15‏]‏؛ ولهذا كان قَتلُ صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان‏.‏ فَقَتْلُ أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى، أشد إهانة له من أن يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك، كما مات أبو لهب -لعنه الله- بالعَدَسة بحيث لم يقربه أحد من أقاربه، وإنما غسلوه بالماء قذفًا من بعيد، ورجموه حتى دفنوه؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ‏[‏يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ‏]‏‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51، 52‏]‏ ‏{‏حَكِيم‏}‏ فيما شرعه من قتال الكفار، مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم، بحوله وقوته، سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 14‏]‏

‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ‏}‏

يذكرهم الله بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم، أمانا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عَدُوِّهم وقلة عَدَدهم، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏‏.‏

قال أبو طلحة كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا زُهَيْر، حدثنا ابن مَهْدِي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن عاصم عن أبي رَزِين، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ النعاس في الرأس، والنوم في القلب‏.‏ قلت‏:‏ أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد، وأمر ذلك مشهور جدا، وأما يوم بدر في هذه الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كان سجيةللمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله‏.‏ وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمه عليهم، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5، 6‏]‏؛ ولهذا ‏[‏جاء‏]‏ في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق، رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله سنة من النوم، ثم استيقظ متبسما فقال‏:‏ ‏"‏أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع‏"‏ ثم خرج من باب العريش، وهو يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال‏:‏ نزل النبي صلى الله عليه وسلم -يعني‏:‏ حين سار إلى بدر -والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، يوسوس بينهم‏:‏ تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين‏!‏ فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وانشف الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة‏.‏

وكذا قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه‏.‏ فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاظموا ذلك في صدورهم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملئوا الأسقية، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهورا، وثبت الأقدام‏.‏ وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطر عليها، فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام‏.‏ ونحو ذلك رُوِي عن قتادة، والضحاك، والسدي‏.‏

وقد روى عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والزهري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أنه طش أصابهم يوم بدر‏.‏

والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك أي‏:‏ أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال‏:‏ يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نجاوزه، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بل منزل نزلته للحرب والمكيدة‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء‏.‏ فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك‏.‏ وفي مغازي ‏"‏ الأموي‏"‏ أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الملك‏:‏ يا محمد، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك‏:‏ إن الرأي ما أشار به ‏"‏الحباب بن المنذر‏"‏ فالتفت رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ إلى جبريل، عليه السلام، فقال‏:‏ هل تعرف هذا‏؟‏ فنظر إليه فقال‏:‏ ما كل الملائكة أعرفهم، وإنه ملك وليس بشيطان‏.‏

وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب ‏"‏المغازي‏"‏، رحمه الله‏:‏ حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ بعث الله السماء -وكان الوادي دهسا -فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ بالمطر الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق، عن جارية، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ أصابنا من الليل طش من المطر -يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر -فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر‏.‏ وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه‏:‏ ‏"‏اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض‏"‏‏!‏ فلما أن طلع الفجر، نادى‏:‏ ‏"‏الصلاة، عباد الله‏"‏، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ من حدث أصغر أو أكبر، وهو تطهير الظاهر ‏{‏وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي‏:‏ من وسوسة أو خاطر سيئ، وهو تطهير الباطن، كما قال تعالى في حق أهل الجنة‏:‏ ‏{‏عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ‏}‏ فهذا زينة الظاهر ‏{‏وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏أي‏:‏ مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض، وهو زينة الباطن وطهارته‏.‏

‏{‏وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، ‏{‏وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ‏}‏ وهو شجاعة الظاهر، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم، ليشكروه عليها، وهو أنه -تعالى وتقدس وتبارك وتمجد -أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وازروهم‏.‏ وقال غيره‏:‏ قاتلوا معهم‏.‏ وقيل‏:‏ كثروا سوادهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سمعت هؤلاء القوم -يعني المشركين -يقولون‏:‏ ‏"‏والله لئن حملوا علينا لننكشفن‏"‏، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك، فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير، وهذا لفظه بحروفه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ‏}‏ أي‏:‏ ثبتوا أنتم المسلمين وقووا أنفسهم على أعدائهم، عن أمري لكم بذلك، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري، وكذب رسولي ‏{‏فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ أي‏:‏ اضربوا الهام ففلقوها، واحتزوا الرقاب فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم، وهي أيديهم وأرجلهم‏.‏

وقد اختلف المفسرون في معنى‏:‏ ‏{‏فَوْقَ الأعْنَاقِ‏}‏ فقيل‏:‏ معناه اضربوا الرؤوس‏.‏ قاله عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ‏{‏فَوْقَ الأعْنَاقِ‏}‏ أي‏:‏ على الأعناق، وهي الرقاب‏.‏ قاله الضحاك، وعطية العوفي‏.‏

ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال وكيع، عن المسعودي، عن القاسم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق‏"‏ واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام‏.‏

قلت‏:‏ وفي مغازي ‏"‏الأموي‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول‏:‏ ‏"‏نُفَلِّق هاما‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏

فيقول أبو بكر‏:‏ من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلمافيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت، ويستطعم أبا بكر، رضي الله عنه، إنشاد آخره؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏69‏]‏‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ معناه‏:‏ واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم‏.‏ و‏"‏البنان‏"‏‏:‏ جمع بنانة، كما قال الشاعر

أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةً *** وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ يعني بالبنان‏:‏ الأطراف‏.‏ وكذا قال الضحاك وابن جريج‏.‏

وقال السدي‏:‏ البنان‏:‏ الأطراف، ويقال‏:‏ كل مَفْصِل‏.‏

وقال عكرمة، وعطية العوفي والضحاك -في رواية أخرى-‏:‏ كل مفصل‏.‏

وقال الأوزاعي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ قال‏:‏ اضرب منه الوجه والعين، وارمه بشهاب من نار، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس -فذكر قصة بدر إلى أن قال-‏:‏ فقال أبو جهل‏:‏ لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم، ورغبتهم عن اللات والعزى‏.‏ فأوحى الله إلى الملائكة‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ فقتل أبو جهل لعنه الله، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا، فوفى ذلك سبعين -يعني‏:‏ قتيلا‏.‏

ولذلك قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ أي‏:‏ خالفوهما فساروا في شق، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق -وهو مأخوذ أيضا من شق العصا، وهو جعلها فرقتين -‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه، لا يفوته شيء، ولا يقوم لغضبه شيء، تبارك وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ‏}‏ هذا خطاب للكفار أي‏:‏ ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا، واعلموا أيضًا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة‏.‏